وضع الفقهاء عدة
قواعد أصولية كلية للاستهداء بها في إثبات الوقائع عند نظر الدعاوى ، وهذه
القواعد الأصولية تنص عليها بعض قوانين الإثبات لتراعى عند نظر الدعوى ،
والقواعد الأصولية تستصحبها المحاكم عند نظرها للدعوى ، ويجب أن تكون
بمثابة قانون مراعى ابتدءا . وفي هذا سنبين مفهوم مصطلح القاعدة الأصولية
ومعنى الاستصحاب ومفهوم الأصل ومن ثم سنسرد أهم القواعد الأصولية في
الإثبات
أولاً مفهوم القاعدة الأصولية :
تعني
القواعد الكلية التي يعرف منها أحكام جزئياتها المندرجة تحتها ، وعرفت
بأنها قضايا كلية يمكن بواسطتها أن تستنبط الأحكام من أدلتها من الكتاب
والسنة أو غيرها من الأدلة(1) ، أي أن القاعدة الشرعية حكم كلي ينطبق على
معظم جزئياته وتندرج تحت فروع مختلفة ، وهي أصول فقهية صيغت في نصوص موجزة
تتضمن أحكاماً تشريعية عامة في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها ، وتتميز
هذه القواعد بالإيجاز الشديد في صياغتها على عموم وسعة استيعابها للفروع
الجزئية ، فتصاغ القاعدة عادة في كلـمات محكـمة من ألفـاظ العمـوم (2) .
مفهوم الاستصحاب :
الأستصحاب
في اللغة لفظ مشتق من لفظ الصحبة على وزن استفعال ، وفي الاصطلاح الشرعي
يعني استدامة أثبات ما كان ثابتاً أو نفي ما كان منفياً . وقسمها ابن
القيم إلى ثلاثة أقسام، وهي استصحاب البراءة الأصلية واستصحاب الوصف
المثبت للحكم الشرعي حتى يثبت خلافه واستصحاب حكم الإجماع حتى يثبت خلافه
(3) ، وعرفه الشيخ الطوسي بأنه إبقاء ما كان على ما كان ، أي الحكم بثبوت
حكم في الزمان الثاني بناء على ثبوته في الزمان الأول (4) . وعرفه العلامة
الحلي بأنه حكم الشارع ببقاء اليقين في ظرف شك من حيث الجرى العلمي(5).
والاستصحاب حجة عند أكثر أهل العلم في العبادات ، وفي المعاملات والقضايا
تنص القوانين على القواعد الأصلية لتراعى عند الحكم فهي تعد مستند حكم
لإبقاء الأصل إذا لم يجد دليلُ ُ نفياً لما هو ثابت في الأصل أو ما ينقضه
، ومتى ما ثبت خلاف الأصل حكم القاضي بما ثبت لديه .
مفهوم
الأصل : أصل كل شيء هو ما يستند تحقيق ذلك الشيء إليه (6) ، وعرف بأنه هو
ما يبنى عليه غيره ولا يبنى هو على غيره ، أما في اصطلاح الإثبات فهو
الحالة العامة التي هي بمثابة قانون مرعى ابتداء بلا حاجة إلى دليل خاص
عليه ، بل يعتبر مسلماً بنفسه(7) .
اهم القواعد
الأصولية التى يمكن ان يعتكز عليها القاضى فى مجال الاثبات وقد قننتها بعض
القوانين واوجبت العمل بها مثل قانون الاثبات السودانى
1)
الأصل في المعاملات براءة الذمة والبينة على من يدعي خلاف ذلك: الأصل أن
الإنسان ذمته بريئة غير مشغولة بحق لآخر ، ويتم شغلها بالمعاملات التي
يجريها والأصل فيه براءة الذمة . وكل شخص يدعي خلاف الأصل عليه إثباته،
ولذلك لم يقبل في شغل الذمة شاهد واحد ما لم يعضد بآخر أو يمين المدعي
ولذا أيضا كان القول قول المدعى عليه لموافقته الأصل(
.
2)
الأصل براءة المتهم حتى تثبت إدانته دون شك معقول : هذه القاعدة مجالها
القانون الجنائي ، حيث أن الشك يفسر لمصلحة المتهم وليس المعاملات ،
وعموما فان هذه المادة تقابل قاعدة الأصل في المعاملات براءة الذمة والتي
سبق شرحها .
3) الأصل في الأحوال البالغ السلامة ،
وحرية التصرف والبينة على من يدعي أي عارض على أهليته ، أو قيام أي ولاية
عليه : وهذا يعني أن جميع تصرفات البالغ ومعاملاته صحيحة وسليمة لأن الأصل
فيه السلامة ومن يدعي عارض على أهليته وحرية تصرفه إثبات ذلك ، أي عليه
أثبات أن هناك مانع من موانع الأهلية على المذكور من حجر أو جنون وسفه أو
غيره من موانع الأهلية المعروفة .
4) الأصل صحة
الأحوال الظاهرة ، والبينة على من يدعي خلاف ذلك : وهذه القاعدة تتفرع
منها قاعدة البينة لإثبات خلاف الظاهر واليمين لبقاء الأصل . لأن الأصل
مؤيد بظاهر الحال فلا يحتاج لتأيد أخر ومن يدعي خلافه علية البينة على ما
يدعيه .
5) الأصل فيما ثبت بزمان بقاؤه على ما كان
عليه لزمن معقول ، والبينة على من يدعي زواله أو تحوله : وهذا يعني
استصحاب الماضي بالحال فما كان ثابتاً في الماضي يحكم به ما لم ترد البينة
على زواله أو تحوله أي أن القديم يترك على قدمه ما لم يثبت خلافه لان بقاء
الشيء لمدة طويلة دليل على انه مستند إلى حق مشروع فيحكم به ما لم ترد حجة
على زواله أو تغيره وتماثلها قاعدة ما ثبت بزمان يحكم ببقائه ما لم يوجد
المزيل .
6) الأصل في التدابير التشريعية والتنفيذية
والقضائية أنها جارية على حكم القانون والبينة على من يدعي زواله أو تحوله
: وهذه القاعدة تعني أن التدابير الصادرة من السلطات التشريعية والتنفيذية
والقضائية صادرة موافقة للقانون وسارية وعلى من يدعي خلاف ذلك إثباته
بالبينة التي تثبت زواله أو تحوله أو إلغاءه .
7) لا
ينسب لساكت قول ، ولكن السكوت في معرض الحاجة إلى البيان بيان يجوز
للمحكمة أن تستخلص منه ما تراه معقولاً : وردت هذه القاعدة في كتاب درر
الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر وأضاف المشرع السوداني إليها بجواز
استخلاص المحكمة ما تراه معقولاً من معنى لسكوته . وهذه القاعدة تعني أنه
لا يبنى على السكوت معنى ويؤخذ به ، ولكن السكوت فيما يلزم التكلم به
إقرار وبيان وتصديق وقبول لما ذكر .
من سعى في نقض ما تم على يديه فسعيه مردود عليه: معناها ، أنه لا يجوز
لشخص أن يسعى إلى نفي ونقض ما قام به بنفسه ، إي أن إي سعي من جانبه إلى
تقديم حجة لنفي ما تم على يديه مردود عليه ولا يؤخذ به .
9)
العرف القولي أو العملي حجة إذا اضطرد و غلب : والعرف القولي هو اصطلاح
جماعة على لفظ يستعملونه في معني مخصوص متى ما نطق فهم المقصود به بمجرد
نطقه وهو العرف المخصص . أما العرف العملي فهو تعود أهل ناحية إلى شيء
معين من عدة خيارات بحيث إذا طلب من إي فرد منهم قام بفعله بعينه دون
الخيارات الثانية ، مثل تعود أهل ناحية على أكل خبز القمح فإذا طلب من أي
فرد بشراء خبز فعليه شراء خبز القمح استنادا على هذا العرف . ويتفرع من
هذه القاعدة قاعدة الحقيقة تترك بدلالة العادة والعادة تعتبر إذا اطردت أو
غلبت بحيث تعارف عليها الناس باضطرادها وغلبتها .
وفيما يلي قواعد لم ترد في قانون الإثبات ولكنها وردت في شرح مجلة الأحكام العدلية ومؤلف الأشباه والنظائر للسيوطي ، وهي :
10)
العادة محكمة : بمعنى أن العادة عامة كانت أو خاصة تجعل حكماً لإثبات حكم
شرعي ويتفرع من هذه القاعدة عدة قواعد تجعل استعمال الناس عادة حجة يجب
العمل بها مثل : الثابت بالعرف كالثابت بدليل شرعي والمعروف عرفاً
كالمشروط شرطاً والتعيين بالعرف كالتعيين بالنص والمعروف بين التجار
كالمشروط بينهم . قال القاضي : أصلها قول رسول الله e "ما رآه المسلمون
حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو ثم عند الله قبيح وفي
هذا الحديث يقول العلائي ولم أجده مرفوعا في شيء من كتب الحديث أصلا ولا
بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال وإنما هو من قول عبدالله بن
مسعود موقوفا عليه أخرجه أحمد في مسنده.
11) الممتنع
عادة كالممتنع حقيقة : وهذا يعني أن ما استحال عادة لا تسمع فيه دعوى .
كما لو أدعى شخص أن الجنين الذي في بطن هذه المرأة قد باعه المال الفلاني .
12)
دليل الشئ في الأمور الباطنة يقوم مقامه : وهذا يعني أنه يحكم بالظاهر
فيما يتعسر الإطلاع على حقيقته بمعنى أن السبب الظاهري يقوم بالدلالة على
الأمور الباطنة إي يستدل على الأمر الباطني بمظاهرها الخارجي .
13)
المطلق على إطلاقه إذا لم يُقيد نصاً أو دلالة : وهذا يعني أن الأمر
المجرد من التقييد يؤخذ على إطلاقه ما لم يوجد ما يخصصه دلالة أو نصاً .
14)
إذا تعارض أصلان أو أصل وظاهر وجب النظر في الترجيح : وتعني أنه متى ما
تعارض دليلان دليل ظاهر ودليل الأصل لا يؤخذ الظاهر على أطلاقة ولا الأصل
على أطلاقة وينظر فيهما وأيهما أرجح يؤخذ به ، مثل شهادة عدلين فإنها تفيد
الظن ويعمل فيها بالإجماع ولا ينظر إلى أصل براءة الذمة وهنا يرجح دليل
الظاهر بلا خلاف ذلك لاستناده إلى سبب شرعي ، كما أنه متى ما رجح دليل
أصلي حكم به بلا خلاف:
15) السؤال معاد في الجواب :
وهذا يعني أن ما يرد من كلام جواباً على سؤال إقرار ومصدق لما أجاب به ،
ويشترط لاعتباره كذلك أن لا تكون الإجابة متعدية ، بمعنى أن يكون الكلام
بمقدار ما يحتاج إليه الجواب ، أما إذا كان الكلام زائداً عما يحتاج إليه
الجواب فلا يعد منه إقراراً فيما أجاب به.
16) إشارة
الأخرس المعهودة كالبيان باللسان: لا تجيز بعض المذاهب شهادة الأخرس ولو
فهمت إشارته حيث الشهادة تعتد فيه باليقين ومنهم الحنابلة الذين لا يجيزون
الأخذ بإشارات الأخرس كبينة إلا فيما يختصه به من أحكام . أما المذاهب
التي تجيز الأخذ بإشارة الأخرس المعهودة فان إشارة الأخرس معتبرة لديهم
سواء علم بالكتابة أو لا يعلم بها ، وهي حجة في المعاملات دون الجنايات
اعملاً لقاعدة درء الحدود بالشبهات.
17) يقبل قول المترجم
وكأنها صادرة من أصحابها : المترجم هو الذي يترجم شهادة الشاهد أو أقوال
الخصوم إلى لغة المحكمة . وبمقتضى هذه القاعدة ، يجوز للقاضي متى ما كان
غير عارف بلسان الخصوم أو الشهود أن يستدعي من يترجم له أقوالهم وشهادة
شهودهم على أن يكون عدلاً . هناك خلاف بين الفقهاء في شأن أقوال المترجم
فمنهم من يرى أنه تقبل الترجمة من واحد وهو الراجح في المذهب الحنبلي
والحنفي ، ومنهم من رأى بأن الترجمة لا تقبل إلا من اثنين عدلين شأنه شأن
الشهادة ومن قالوا بذلك هم الشافعية وفي رواية للإمام احمد.
18)
لا عبرة بالظن البين خطؤه : وتفسير هذه القاعدة أنه متى ما وقع فعل بناءاً
على الظن ، لا يعتد به متى ما كان فيه مخالفة لحكم شرعي .
19)
لا حجة مع الاحتمال الناشئ عن دليل: وهذه القاعدة تعني أن أي حجة عارضها
احتمال استناداً إلى دليل لا يعتد بها ، ولكن الاحتمال غير المستند إلى
دليل فهو بمنزلة العدم .
20) لا عبرة للتوهم : وهذا يعني انه لا حكم شرعي استناداً على الوهم وأنه لا يجوز تأخير الشئ الثابت بصورة قطعية بوهم طارئ .
21) الثابت بالبرهان كالثابت بالعيان : وهذا يعني أن كل شيء ثبت بالبينة الشرعية كان حكمه حكم المشاهدة .
22)
البينة على المدعي واليمين على من أنكر : هذه القاعدة مأخوذة من حديث عبيد
الله عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي e قال في خطبته : "البينة
على المدعي واليمين على من أنكر. وذلك لأن المدعي يدعي خلاف الظاهر فعليه
البينة على ما يدعيه والمدعى عليه يؤيده الظاهر فيكتفي بيمينه .
23)
البينة حجة متعدية والإقرار حجة قاصرة : والبينة تعد حجة متعدية باعتبار
أنها تتعدى للغير أي بمعنى أنها تتعدى من المشهود عليه للغير ومن الشهود
للغير أما الإقرار فهو يثبت مسئولية المقر بحق الغير عليه ولا يتعداه.
24) المرء مؤاخذ بإقراره : وهذا يعني أن الإقرار حجة على المقر ما لم يكذبه ظاهر الحال أو يكذب شرعاً .
25)
لا حجة مع تناقض لكن لا يختل معه حكم الحاكم : يمكن تصور تطبيق هذه
القاعدة عند رجوع الشهود عن شهادتهم فشهادتهم لا تعد حجة ولكن إذا حكم
القاضي قبل رجوعهما فإن ذلك لا ينقض الحكم وعلى الشاهدين الضمان ، وهذا
معنى لا يختل معه حكم الحاكم أو في حال وجود تناقض في البينة فالقاضي لا
يحكم بها.
26) قد يثبت الفرع مع عدم ثبوت الأصل : هذا القاعدة
مستوحاة من قاعدة يثبت الأصل وإن لم يثبت الفرع ، أي قد لا يثبت الفرع مع
ثبوت الأصل ، فجاءت القاعدة بصورة عكسية وهذه القاعدة يمكن تصور تطبيقها
عند إنكار الأصيل للدين مع إقرار الكفيل به .
27) المعلق
بالشرط يجب ثبوته عند ثبوت الشرط : وهذه القاعدة تعني أن الشئ المعلق على
الشرط يكون معدوماً قبل ثبوت الشرط الذي علق عليه ، بمعنى أنه متى ما علق
شيء على تحقق شرط معين لا يعتد به ولا تعد حجة ما لم يتحقق الشرط المعلق
عليه الشئ .
28) اليقين لا يزول بالشك : ومعناه أن ما هو ثابت
بيقين لا يزول بالشك لأن الشك أضعف من اليقين ، فلذا اليقين لا يزول إلا
بيقين مثله وإنما الشك يزال باليقين . وهذه القاعدة أعتبرها القاضي حسين ،
القاعدة الأولى من القواعد الأربع التي رد إليها جميع مذهب الشافعي وأصل
هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم إن الشيطان ليأتي أحدكم وهو في صلاته
فيقول له أحدثت فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا.
29)
الأصل في كل حادث تقديره بأقرب زمن : ومنها ضرب بطن حامل فانفصل الولد حيا
وبقي زمانا بلا ألم ثم مات فلا ضمان لأن الظاهر أنه مات بسبب آخر.
30)
الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم : وهذه القاعدة
مصدرها قول رسول الله r ما أحل الله فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت
عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا. واستخلص
من هذه القاعدة أيضا القاعدة الجنائية لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص وعند
أبي حنيفة الأصل فيها التحريم حتى يدل الدليل على الإباحة.
وما
ذكرناه تعد من أهم القواعد الفقهية في الإثبات ،وهي منقولة بتصرف مؤلف درر
الحكام شرح مجلة الأحكام والأشباه والنظائر والمجامع ويمكن الرجوع اليها
للاستزادة .