بسم الله الرحمن الرحيم
الأسطورة
التي تزعم أن في الإسلام رجل دين لا علاقة له بالدنيا ولا بالحياة، وأن
هناك رجل دنيا لا علاقة له بالدين، أسطورة كاذبة لا يعرفها الإسلام على
امتداد تاريخه؛ بل هي مستوردة من وراء البحار،
والعالم المجاهد الذي
نتحدث عنه "أسد ابن الفرات" كان قاضيًا وفقيهًا، ومجاهدًا، وقائدًا
للأسطول الذي فتح جزيرة صقلية، إحدى جزر حوض البحر الأبيض المتوسط، والتي
تقع في جنوب إيطاليا.
واختياره- رضي الله عنه- يثير الدهشة في
زماننا هذا، ويبعث على العجب، كيف يتولى قاض فقيه قيادة الأسطول في معركة
من أشد المعارك، وهو سيلتقي ولا شك بالأسطول الروماني الذي يقوم بحماية
هذه الجزيرة.
ومما يزيد من تلك الدهشة أن القاضي قد شارف على السبعين من عمره، فكيف يقوى على احتمال أهوال المعركة؟
كان
الأسطول يتكون من ثمان وتسعين قطعة حربية، رست بالقرب من الشاطئ في تنسيق
وانتظام.. وكانت أشرعة السفن، وهى ترفرف فوق البحر كأنها أجنحة ملائكة،
جاءت لتشارك المؤمنين في الجهاد.
وإذا كان الوقت في ربيع الأول فقد انبعثت في نفوس المجاهدين ذكريات باهرة ساحرة عما أصاب البشرية من خير عميم في هذا الشهر.
إن
المهمة التي جردوا أنفسهم لها هي خطوة من تلك الخطوات المباركة التي بدأها
النبي على طريق الجهاد.. وستتلوها خطوات ما دام للإنسانية وجود.
ولم يكن أمام المجاهدين إلا أحد أمرين: الاستشهاد أو النصر، وكلاهما أمنية غالية تداعب نفوسهم.
ولما
وصلوا إلى ميناء مازر- ويقع في الطرف الغربي لجزيرة صقلية- نادى أسد بن
الفرات في الجند بالنزول، وكانت أول لحظة يخط فيها التاريخ سطرًا مجيدًا
من سطور الفتح الأكبر في هذه الجزيرة.
كان أسد بن الفرات قد أعد
خطة الفتح بعبقرية عسكرية ذكرت المجاهدين بتلك الخطط الدقيقة التي وضعها
القواد العظام في أيام الفتح الأولى.
اتجه بالجيش إلى شرق الجزيرة،
بعد أن خصص فرقة من الجند لحراسة الأسطول، وبعد أن سد جميع الطرق والشعاب
التي يمكن أن يتسلل منها الروم من الخلف.
ثم أمر بالهجوم على جيش
الروم، وكان يقوده رجل ممعن في الغطرسة والكبرياء كأشد ما يكون الإمعان..
هذا الرجل اسمه بلاطة، وكان له تاريخ عريض في كسب المعارك، مما جعل الغرور
جزءًا من نفسه، وشطرًا من مشاعره.
وقد أقسم بلاطة بكل عزيز لديه
بأن لن يكتفي بدحر المسلمين، وإنما سيأخذ بالثأر من أميرهم في القيروان،
وسيوقف زحف المسلمين على المدن في المنطقة كلها.
ومما زاده صلفًا
وغرورًا أنه نظر ناحية المسلمين فرأى أسد بن الفرات شيخًا متقدمًا في
السن، تلمع لحيته البيضاء تحت أشعة الشمس، فقال لجيشه: أرأيتم هذا الشيخ..
إنه قائد المسلمين.. وهو كما ترون لا جلد له على القتال، ولا صبر له على
الكر والفر، ولا يملك العزم على احتمال أهوال المعارك.. احملوا عليهم،
واجعلوهم طعامًا لوحوش الجزيرة.
وبينما كان بلاطة يتهكم ويزري
بقائد المسلمين، كان أسد بن الفرات يعظ جنده بالآية الكريمة:﴿يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ
كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ
تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ
مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال: 45- 46)، وكان يأمرهم بألا يقتلوا شيخًا
ولا طفلاً ولا امرأة، وأن يكبروا عند كل ضربة سيف، وعند كل رمية سهم.
ثم
التقى الجمعان، وحمي وطيس المعركة، وكانت المفاجأة لجيش الروم أن أسد بن
الفرات، الشيخ الذي رق عظمه، ونالت منه السنون، يصول ويجول كأنه شاب في
مقتبل العمر، وتجلت فيه القوة الذاتية للمسلم، القوة التي يستمدها من
إيمانه وعقيدته، فتبعث في الجسد المحطم المتهالك تيارًا من العزيمة يصعق
كل من يتصدى له.
وما هي إلا ساعة حتى ظهر الشحوب على وجه قائد
الروم، وأدرك أنه كان يحلم بسراب خادع، وأنه يحارب رجالاً يحبون الموت
ويقبلون عليه.. ويتلذذون بالاستشهاد في أرض المعركة.
ومرت به لحظات ثقال يتردد بين الاستمرار في القتال حتى ولو أدى ذلك إلى مصرعه، وبين الفرار وفيه ما فيه من وصمة العار!.
ثم آثر الحياة على الموت، وفر من ساحة القتال.. وهرب إلى فلورية تسبقه أنباء الهزيمة، ويغطي وجهه غبار الهوان.
وهنا سنحت الفرصة لخصومه أن ينتقموا منه، فطالما جرح كبرياءهم بجبروته وغطرسته.. وطالما جرعهم كئوس الذل والصغار.
وإذا
هو في غمرة العار الذى جلله، والهزيمة التي أركسته، فوجئ بعدد من الجند،
يحدقون به، ويروون سيوفهم في دمائه، وانتهت أسطورة القائد الذي كانت
الجزيرة تعتمد عليه في حمايتها.
وإذا كانت الجزيرة قد قضت ليلة
باكية منتحبة على ما لحقها من هوان، فإن المسلمين كانوا في الجانب الآخر
يصلون لله شكرًا على النصر الذي أحرزوه بفضله ورحمته.
ولكن هل يستسلم حاكم الجزيرة، ويحني رأسه للهزيمة، ويتخلى عن سلطانه للمسلمين؟
وتنهد تنهيدة عميقة، وهو يفكر فيما آل إليه أمر الجزيرة، وفيما سوف يحدث لها إن لم تدركها نجدة سريعة.
ومن أين تأتي النجدة؟
الجزيرة
تابعة للبلاط الروماني في القسطنطينية، وإن القسطنيطنية لن تتواني لحظة
واحدة إذا علمت بأن الجزيرة على وشك السقوط في أيدي المسلمين.
كان
الاستنجاد بالبلاط آخر سهم يلقيه ميخائيل الثاني للحفاظ على سلطانه في
الجزيرة، وكانت الأحداث تجري سراعًا، تقطع الأحلام التي تزجيها رياح
عاصفة، فالمسلمون يستولون كل يوم على جزء جديد من الجزيرة، ويرفعون عليه
علم الإسلام، ويقيمون فيه شعائر الصلاة.
وفيما هم يتقدمون في
الجزيرة شرقًا وغربًا، كان ميخائيل الثاني قد استنجد بالبلاط الروماني،
وتحرك الأسطول من القسطنطينية حاملاً القوات الرومانية المتأهبة لقتال
المسلمين.
وعندما وصل إلى الجزيرة كان القتال على أشده عند قلعة
الكرات المنيعة، وكان ميخائيل الثاني إزاء عجزه عن مواصلة القتال قد لجأ
إلى الخديعة، فطلب من المسلمين الصلح، وإغماد السيوف، وكان يهدف من وراء
ذلك إلى وقف القتال ريثما يصل الأسطول الروماني.
ولكن أسد بن
الفرات القائد الفطن الأريب، أدرك ببصيرته الواعية الحكيمة أن هناك خديعة
لجأ إليها حاكم الجزيرة، وأن عليه أن يحتاط لهذا الأمر، فقام بتوزيع
السرايا على جهات مختلفة من الجزيرة، حتى إذا ما اتضح وجه الخديعة، وأسفر
عن ملامحه الكئيبة، يكون زمام الأمر في يديه.
وما لبث أسد بن
الفرات أن اكتشف بعد أيام صدق حدسه، واتضحت أمام عينيه الصورة التي كان
يخفيها ميخائيل الثاني وراء الصلح والمهادنة، فقد وصل الأسطول الروماني
إلى الجزيرة، وتدفقت عليها القوات الرومانية كأمواج البحر، وبدأت المعارك
تأخذ شكلاً عاصفًا في كل مكان من صقلية.
استمر القتال دائرًا بين
المسلمين والروم سبعة عشر شهرًا، إذ بدأ في ربيع الأول سنة 212 هجرية، وظل
على أشده حتى استهل رجب سنة 213 هجرية.
كانت المعركة طوال هذه
الفترة تسير لصالح المسلمين، وقد أدارها أسد بن الفرات بحكمة أعادت إلى
الذاكرة صور العبقرية العسكرية التي كان يتمتع بها القواد العظام أمثال:
"خالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، وطارق بن زياد، ومسلم بن أبي قتيبة".
كان
أسد بن الفرات حازمًا مع جنده، كما كان حازمًا مع أعدائه، حدث أن بعض
الجند استبطئوا نهاية المعركة، فأرسلوا جنديًّا من بينهم اسمه أسد بن قادم
يطلب من أسد بن الفرات السماح له ولعدد من زملائه بالعودة إلى القيروان.
وهنا
دار حوار بين القائد والجندي حاول خلاله القائد أن يقنع الجندي بالعدول عن
رأيه، ولكن دون جدوى، فما كان من أسد بن الفرات القاضي السمح إلا أن أمسك
السوط، وضرب به الجندي وهدده بفصل رأسه عن جسده إذا تخلى عن الجهاد وخرج
على طاعة الله.
توجس ابن الفرات من هذه الحادثة، وخشي أن تكون
شرارة تشتعل بعدها فتنة التذمر في أوساط الجند، فقام بجولة في جميع جبهات
القتال، وراح يتحدث إلى المجاهدين عما ادخره الله لهم من رضوان سابغ ونعيم
لا يبلى.
ثم خرج من هذه الجولة بحقيقة مؤكدة، وهى أن الجيش عازم على القتال، حتى النصر أو الشهادة.
وبالرغم
من الإمدادات العسكرية التي كانت ترسلها القسطنطينية إلى الجزيرة لمقاتلة
المسلمين فإن قوات الروم كانت تتساقط كأوراق الخريف هزها إعصار في يوم
عاصف، وكانت أعلام الإسلام ترتفع كل يوم على بقعة جديدة من بقاع الجزيرة
حتى أصبح الاستيلاء على صقلية قاب قوسين أو أدنى.
ولكن الظروف
تغيرت فجأة، وجاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، فبينما المسلمون في قمة
انتصارهم، ويرفعون ألوية الله، ويواصلون فتوحات أسلافهم إذا بوباء مبيد
ينشر أجنحته السوداء على الجزيرة، ويصحب معه أشباح الموت ويسوق مواكب
الفناء.
وكان لابد للمأساة أن تبلغ الذروة وتصل إلى القمة، فامتدت
يد الوباء إلى القائد العظيم أسد بن الفرات، وتسلل الموت إلى جسد الشهيد..
فقضى نحبه والسيف في يده.
استشهد أسد بن الفرات، وفَتْح صقلية على
وشك أن يتم، مات وهالة الجهاد تكسو وجهه الوضيء، وظلال الرضوان تنبسط على
أيامه الغاربة، مات وكل شبر في صقلية يشهد بجهاده المقدس، وكل بقعة فيها
يرفرف عليها علم الإسلام.
وإذا كان القدر لم يمهله حتى يتمتع بثمرة
جهاده، فلا ريب أن روحه كانت تطل من عليائها في سنة 264 لترى الجزيرة وقد
فتحها المسلمون، وأصبحت إحدى الإمارات الإسلامية.
بتصرف من مقالة للشيخ/ محمد عبدالله الخطيب
منقول