متى يجوز استئناف الحكم الصادر في دعوى التزوير الفرعية
نقد لحكمي محكمة مصر الصادرين في 18 أكتوبر سنة 1926 و14 فبراير سنة 1927
نشرت
مجلة المحاماة بالعدد الرابع من سنتها السابعة تحت نمرة (243) حكمًا
لمحكمة مصر الابتدائية الأهلية أصدرته في 18 أكتوبر سنة 1926 قررت فيه أن
الحكم الصادر من المحكمة الجزئية برد وبطلان سند حصل الادعاء فيه بالتزوير
يجوز استئنافه وإن كانت قيمة الدعوى الأصلية لا تبلغ نصاب الاستئناف.
نشرته ونشرت تحته تعليقًا للأستاذ عبد الفتاح بك السيد.
ونشرت
مجلة كلية الحقوق تعليقًا آخر للأستاذ العشماوي بك بالعدد الثاني من سنتها
الأولى بالصحيفة نمرة 81 وما بعدها - ثم نشرت مجلة المحاماة بالعدد الخامس
من سنتها السابعة تحت نمرة 349 حكمًا آخر أصدرته محكمة مصر في 14 فبراير
سنة 1927 فندت فيه بعض ما اعترض به على حكمها الأول.
ولأهمية المسألة ولهذا التنازع عليها رأيت أن أكتب هذه الكلمة رجاءً أن تكون الحاسمة فيها.
القانون صريح في وجوب الرجوع إلى قيمة المدعى به لمعرفة جواز استئناف الحكم وعدم جوازه المادة (345) من قانون المرافعات.
وصريح
في حالة ما إذا أقيمت دعوى من المدعى عليه على المدعي في أثناء الخصومة أو
دعوى بطلب المقاصة في الرجوع في التقدير إلى أكبر مبلغ حصلت المطالبة به
أمام المحكمة المادة (348) مرافعات.
وصريح فيما استثناه من ذلك بالنص كالأحكام الصادرة في الاختصاص وفي رد القضاة.
والفقهاء
متفقون على أن ولاية القاضي على أصل الدعوى تمتد إلى وسائل الدفاع وأوجه
الدفع والدفوع التي تقدم فيها وتكون ولايته عليها ولاية على أصلها فيحكم
فيها بحكم قابل للاستئناف إذا كان حكمه في الأصل قابلاً له كذلك.
ولا
خلاف في أن الخصومة قد تتسع بين الخصمين إلى أبعد مما يتنازعان عليه في
الظاهر فتفصل فيها المحكمة في حدودها هذه لا في حدودها الواضحة بتقدير
المدعى به ويكون الاعتبار في جواز الاستئناف وعدمه لقيمة هذه الخصومة التي
امتدت إليها الدعوى.
لا خلاف في ذلك كله فيما نعلم في الفقه والقضاء
- ولكنك إذا سألت متى تعتبر الخصومة ممتدة إلى أبعد من حدود المدعى به
رأيت اختلافهم في التفصيل والتطبيق.
على أنهم مع ذلك متفقون على
تبعية الأحكام الصادرة في الدفع بسبق الفصل في الدعوى أو بسقوط الحق فيها
بالتقادم للأحكام التي تصدر في موضوع الدعوى فيكون الحكم فيها غير قابل
للاستئناف متى كانت قيمة الدعوى الأصلية أقل من نصاب الاستئناف.
وهم
متفقون على امتداد الخصومة إلى ما وراء حدود المدعى به إذا تعلقت طرق
الدفاع أو الدفوع الموضوعية بأصل الحق المترتب عليه المدعى به ونزل المدعى
به منه في الواقع منزلة الفرع من أصله.
فإذا طالب المدعي بما تأخر له
من إيراد مؤقت ودفع المدعى عليه بأنه لم يرتب إيرادًا ما كان الحكم الصادر
في الدفع قابلاً للاستئناف متى كانت قيمة الإيراد المدعي بترتيبه تبلغ
نصاب الاستئناف وإن كانت قيمة المدعي بتأخره منه أقل من هذا النصاب لأن
الخصومة امتدت بهذا الدفع إلى خصومة في ترتيب هذا الإيراد فكانت قيمتها
تزيد عن قيمة المدعى به ونزل منها منزلة الفرع من أصله.
وهم متفقون
على تعدية حكم الأصل في الدعوى إلى جميع أوجه الدفع إلا ما اُستثنى بالنص
كالحكم الصادر في الاختصاص وفي رد القضاة، وكذلك ما تمتد به الخصومة فتزيد
قيمتها عما يفصل فيه القاضي فصلاً نهائيًا فيكون الحكم الصادر فيها قابلاً
للاستئناف ولو كانت قيمة أصل الدعوى أقل من نصاب الاستئناف.
ومن هذا الطعن بالتزوير ومخاصمة وكلاء الدعاوى (Desavoeu) وإنكار صفة أحد الخصوم من وارث أو شريك أو وصي.
ولعل
الفقه في مسائل هذا الباب من القانون هو النظر إلى الارتباط الوثيق بين
نظرية قوة الشيء المقضي فيه وبين نظرية تأثير أوجه الدفاع والدفوع على
قابلية الأحكام التي تصدر فيها وفي الموضوع للاستئناف وعدمه.
وإنك
لتلاحظ فيما تطالعه من الأحكام الصادرة في هذه المسائل وما شابهها أنهم
ينظرون في آثار الدفع على غير المحكوم فيه من موضوع الدعوى فإن رأوا أنها
تتعداه إلى غيره اعتبروا الدفع قد امتد بالخصومة إلى ما وراء حدودها
الأصلية وقدروا الدعوى باعتبار قيمة الدفع إن كان مما يقبل التقدير وإلا
اعتبروها مجهولة القيمة.
اعتبر ذلك في أحكامهم الصادرة في الدفوع
المتعلقة ببطلان السند المثبت لأصل الحق تراهم فرقوا بين ما إذا تقدم
الدفع كوسيلة لدفع الخصومة الحالية فلم يعتبروه مادًا للخصومة فيما وراءها
وبين ما إذا طلب الحكم فيه على أنه دعوى فرعية فيعتبرون الدفع قد سحب
الخصومة إلى حدود هذا السند برمته، وكأنهم يلاحظون في هذا وذاك أن المحكمة
في الصورة الأولى لا تكون قد حكمت إلا في موضوع الدعوى الأصلية بعد أن
نظرت في البطلان والصحة كوسيلة من وسائل الدفاع في الدعوى وأنها في الصورة
الثانية تكون قد حكمت في بطلان السند وصحته حكمًا يتعدى هذه الدعوى إلى
غيرها مما يتعلق به (راجع فقرة 735 من كريبون في كتابه الاستئناف).
واعتبر
كذلك أحكامهم في الدعاوى التي يمتد النزاع فيها إلى صفة أحد الأخصام ككونه
وارثًا أو شريكًا أو وصيًا تراهم اعتبروه (على ما ثبت عليه القضاء أخيرًا)
من المسائل الفرعية المتعلقة بموضوع الدعوى والتي تفصل فيها المحاكم كما
تفصل فيه بحكم قابل للاستئناف وغير قابل له إلا أن يصبح النزاع في الصفة
هو المقصود الأصلي من الخصومة بطلب الحكم فيه وتحكم فيه المحكمة ويحوز
حكمها فيه قوة الشيء المحكوم به (راجع كريبون فقرة 740 و741 وملحق دالوز
نمرة 90 تحت كلمة درجات التقاضي وقد جاء فيه أن هذا هو الذي ثبت عليه
القضاء أخيرًا).
كما تعتبره في أحكامهم الصادرة في دعوى التزوير
ودعوى الإنكار فقد اعتبرتا من المسائل الفرعية التي يكون للحكم الصادر
فيها صفة الحكم الصادر في موضوع الدعوى من حيث جواز الاستئناف وعدمه
باعتبار قيمة المدعى به وأنهما لا يمدان الخصومة إلا إذا كان موضوع السند
يتناول غير المدعى به وتزيد قيمته عن نصاب الحكم النهائي، فإذا كان السند
المدعى بتزويره لا يتضمن إلا نفي المدعى به كما إذا طالبت بسند قيمته 1000
قرش مثلاً وادعى المدعى عليه التخالص وكان سند التخالص لا يشمل غير ذلك
اتصل الدفع بالموضوع وأخذ حكمه في عدم جواز الاستئناف أما إذا تضمن السند
المدعى بتزويره حقوقًا تزيد قيمتها عما لا يجوز استئنافه وكان من شأن
الحكم بتزويره أو صحته أن يؤثر على تلك الحقوق بأن يكون قضاء فيها كانت
الدعوى الفرعية مما يصح استئنافه.
ونحن إذا اهتدينا بما قدمناه من فقه الباب كله تبين لنا عدم صحة ما ذهبت إليه محكمة مصر في دعوى التزوير أخذًا برأي جارسونيه فيها.
مناقشة
جارسونيه: لم يأتِ جارسونيه في إيراد أصول المسألة إلا بما أورده فيها
غيره فقد قال إن قاضي الأصل هو قاضي الفرع وإن قاضي أول درجة لا يكون حكمه
نهائيًا إذا تصدى لمصالح خارجة عن نصابه وأنه ينبغي التضحية بالقاعدة
الأولى في مصلحته الثانية لأن المقصود من الأولى اختصار الإجراءات واجتناب
الإطالة والمقصود من الثانية تحقيق العدالة بترتيب درجتين من درجات
التقاضي فيما يجب أن ينظر القضاء فيه أمام درجتين متواليتين، وهو في ذلك
لم يأتِ بجديد ولا يخالفه أحد فيه - ثم قال بالبناء على هذه المقدمات إن
الدعوى تكون قابلة للاستئناف إذا تناول الدفع مصلحة تزيد قيمتها عن النصاب
الذي يفصل فيه القاضي فصلاً ابتدائيًا أو كانت المصلحة مما لا يقدر له
قيمة، وهو في هذا لم يأتِ بجديد أيضًا.
ثم قال تطبيقًا لما سبق إن
الحكم الصادر برد وبطلان ورقة نسب التزوير فيها لأحد طرفي الخصومة هو حكم
قابل للاستئناف لأنه يقوم على أساسه اتهام جنائي يتناول مصالح خطيرة وغير
مقدرة القيمة وهي شرف وحرية الخصم الذي صدر عليه.
ولما تساءل
الأستاذين العشماوي بك وعبد الفتاح بك عما عساه يكون رأي محكمة مصر وقد
أخذت بمذهب جارسونيه فيما إذا كان الحكم الصادر في دعوى التزوير صادرًا
برفضها أو صدر بالرد والبطلان وكان التزوير منسوبًا لأجنبي وما رأيها في
دعوى المطالبة بأشياء مسروقة أو بتعويضات ناشئة عن ارتكاب أية جريمة من
الجرائم مهما قلت قيمتها - ولما تساءلا عن ذلك أجابتهما محكمة مصر في
حكمها الثاني بجواز الاستئناف في هذه الصور جميعها جريًا على ما اعتمدته
من رأي جارسونيه وإن كان الظاهر من رأيه أنه لا يرى الاستئناف إلا في
الصورة التي أوردها وهي صورة الحكم بالرد والبطلان في تزوير منسوب لأحد
طرفي الخصومة.
وإذن فقد علمت أن الخلاف بين جارسونيه ومحكمة مصر من
جانب وبين الأستاذين العشماوي بك وعبد الفتاح بك والفقه والقضاء الفرنسي
والأهلي والمختلط من الجانب الآخر لم يكن خلافًا في تأصيل أصول المسألة
وإنما في تطبيقها على دعوى التزوير يرى جارسونيه أن دعوى التزوير المنسوب
لأحد طرفي الخصومة في صورة الحكم فيها بالرد والبطلان تمد الخصومة فتتناول
شرف المحكوم عليه وهو غير مقدر القيمة وترى محكمة مصر أنها تكون دائمًا
غير مقدرة القيمة في هذه الصورة وفي غيرها بالإلحاق بها. ويرى الكل أن
دعوى التزوير لا تمد الخصومة إلا إذا كان السند المدعى بتزويره يشمل
حقوقًا أخرى تتأثر بها ويحوز فيها الحكم الصادر في دعوى التزوير قوة الشيء
المحكوم به.
وإذن فالخلاف قد انحصر فيما يأتي، هل يُعتد بما يمكن أن
يشعر به الحكم الصادر في دعوى التزوير من المساس بالشرف فتكون دعوى
التزوير من أجله غير مقدرة القيمة أم لا ؟
وقد علمت مما أوردناه في
صدر هذا المقال أنهم لا يعتدون في امتداد الدعوى إلا بما تتعلق به الخصومة
بالفعل وتفصل فيه المحكمة صراحةً أو ضمنًا. وما القول بأن وراء المدعى
بالتزوير المساس بالشرف وهو أغلى من أن تقدر له قيمة إلا كالقول بأن وراء
الادعاء بشيء ما في قضية ما مساسًا بالحرية وما أغلاها وإذن فلا تكاد تفتح
الباب لمثل هذا حتى تتسرب منه كل قضية تتعلق بأغلى الحقوق من الحرية
والمساواة وحرمة المساكن.
وبعد فهل يصح أن يقال إن الحكم الصادر
بالرد والبطلان يتعدى أثره الدعوى الأصلية في صورة ما إذا كانت قيمة السند
المنسوب تزويره إلى أحد الخصمين فيه أقل من نصاب الاستئناف وهل يصح
الاعتداد بما قيل من أنه يكون عندئذٍ ماسًا بالشرف لتأسيس اتهام جنائي
عليه ؟
نقول لا، لأنه لا يكون لمثل هذا الحكم في مثل هذه الصورة غير
الأثر الذي ستنتهي به الدعوى الأصلية بالحكم في موضوعها على موجبه ولا
شبهة في أن لا يكون له قوة الشيء المحكوم به أمام المحاكم الجنائية، وإذا
قيل إن جارسونيه يقصد ما يتعرض له المحكوم عليه من الامتهان باطلاع الغير
على حكم صادر بتزويره قلنا إن هذا مما لا يعتد به ومما لا يقام له وزن إذ
المصلحة التي يمكن أن تمتد إليها الخصومة هي ما طُرح على القضاء وفصل فيه
بحكم يكون له قوة الشيء المحكوم به، ولم يكن شيء من ذلك مطروحًا في الدعوى
حتى يقال إنها فصلت فيه.
ولقد حاول جارسونيه نقد مذهب خصومه بعد أن
عزاه إلى روديير وهو أحد أنصاره الكثيرين فقال في هامش كتابه بالصحيفة
نمرة 120 الجزء السادس بالطبعة الثالثة إنه إذا صح وتعين الأخذ به يكون
الحكم الصادر في حالة إنكار الخطوط قابلاً للاستئناف إذا كانت قيمة السند
المنكور مما تبلغ نصاب الاستئناف وهو ما لا يراه.
وإذا كان مذهبنا
ومذهب روديير ينتهي بالتسوية بين دعوى الإنكار ودعوى التزوير في وجوب
الاعتبار بقيمة السند المنكور أو المدعى بتزويره لتقدير المصلحة التي
امتدت إليها الخصومة في الدعويين فلا محل للاعتراض، إذ الغريب في النظر هو
عدم التسوية بينهما حتى في مذهب جارسونيه لأنه إذا كان الحكم بالرد
والبطلان في صورة الادعاء بالتزوير يمس بشرف المحكوم عليه فكذلك يكون
الحكم الصادر بالرد والبطلان في صورة الإنكار، وقد يصح أن يقال إن هذا
الحكم في صورة الإنكار يصلح أن يكون أساسًا لاتهام جنائي كما صح أن يقال
فيه كذلك في صورة الادعاء بالتزوير.
ومن لي بجارسونيه فيعلم كيف أخذت
محكمة مصر برأيه وكيف عممته في جميع الصور وكيف خرجت به إلى غير دعوى
التزوير من دعاوى التعويض الناشئة عن ارتكاب أية جريمة من الجرائم، فيعدل
عن رأيه ويعود إلى ما أجمع عليه الفقهاء.
مناقشة حكم محكمة مصر
الصادر في فبراير سنة 1927. يوهم حكم 14 فبراير سنة 1927 بما قيل فيه من
أن جارسونيه استند في رأيه إلى أحكام كثيرة أن مذهبه في دعوى التزوير مؤيد
بكثير من الأحكام، والحق أنه أورد كثيرًا في تأييد ما أجمع عليه الفقهاء
من اعتبار الأحكام الصادرة في أوجه الدفع فيما لا يزيد موضوع الدعوى
الأصلية فيه عن نصاب الاستئناف نهائية إلا إذا تعلقت بمصالح تزيد عن هذا
النصاب، ولم يورد لتأييد مذهبه في دعوى التزوير إلا ثلاثة أحكام، حكمان
صادران قبل قانون 11 إبريل سنة 1838 وقد اعترفت محكمة مصر بأنهما قد لا
يصلحان سندًا له على ما حققه الأستاذ العشماوي بك في تعليقه. والحكم
الثالث صدر من محكمة جرينوبل في 8 مارس سنة 1837 ونشر في موسوعات دالوز
نمرة 127 وهو خاص بدعوى دفع فيها المدعى عليه بأنه وقع سندها على بياض
فحكمت المحكمة المذكورة بجواز استئناف الحكم الصادر فيها لاعتبارها الدفع
غير مقدر القيمة وقد عنيت موسوعات دالوز في نمرة 245 بالنص على خطأ هذا
الحكم ومخالفته لما جرى عليه القضاء على أثبت ما يكون في ذلك.
ومن
الحق أن نذكر أن رأي جارسونيه لم يناصره فيه أحد من الفقهاء فيما نعلم ولم
يؤيده القضاء إلى الآن ولا نزال نرى المجلات القضائية المختلفة مفعمة
بالأحكام الكثيرة المؤيدة لمخالفيه (راجع دالوز الدورية 92 – 1 – 476)
و(94 - 2 - 467) و(95 - 1 - 120).
وقد عرضت محكمة مصر في حكمها
الصادر في 14 فبراير سنة 1927 لما قرره كريبون من جواز استئناف الأحكام
الصادرة في مخاصمة وكلاء الدعاوى (Desaveu) وإن حصلت المخاصمة أثناء نظر
دعوى قيمتها أقل من نصاب الاستئناف فقالت إنه في ذلك قد تناقض تناقضًا هدم
به نظريته رأسًا على عقب حيث بنى حكمه على ما في مخاصمة وكيل الدعوى من
المساس بشرفه واعتباره وكان الأولى به أن يعتد بما في الحكم بالرد
والبطلان في دعوى التزوير من المساس بشرف أحد طرفي الخصومة وشرفه أولى
بالاعتبار من شرف وكيل الدعوى إذ هو أجنبي فيها.
وظاهر أن احتمال
الخطأ فيما ذهب إليه كريبون في مخاصمة وكيل الدعوى أو في تعليل ما ذهب
إليه فيها لا يفيد مذهب جارسونيه في دعوى التزوير فائدة تذكر كما لا يضعف
مذهب كريبون فيها لأن كليهما قد استثنى من حكم الأصل المتفق عليه صورة
لعارض قوي عنده فجارسونيه استثنى دعوى التزوير وكريبون استثنى دعوى مخاصمة
وكيل الدعوى.
على أن كريبون ومن شايعه قد رأوا أن مخاصمة وكيل الدعوى
وإن أوقفت سير الدعوى الأصلية إلا أنها خصومة لا تقوم بين الخصمين وإنما
تقوم بين الخصم ووكيله ولاحظوا أن المادة (360) مرافعات أباحت للمحكمة
التي تنظر فيها بصفة فرعية أن تحكم على الوكيل بالتضمينات لموكله أو للخصم
الآخر وبإيقافه عن العمل وبإحالته على المحاكمة التأديبية، فرأوا أن
الخصومة قد امتدت في الواقع إلى ما إذا كان الوكيل قد أخل بواجب حرفته
فيما نُسب إليه كما قال جلاسون (جزء أول فقرة 920 طبعة ثانية) فقرروا جواز
استئناف الأحكام الصادرة فيها بغير مراعاة قيمة الدعوى الأصلية.
ويؤيد كريبون في رأيه كاريه وشيفوا (الطبعة الخامسة الجزء الثالث المسألة 1317).
وأخيرًا
قالت محكمة مصر في حكمها الثاني السابق الذكر (إن رأي الشارع المصري
وأغراضه قد ظهرت جليًا عند سَن قانون الإخطاط فإنه أخذ صراحةً برأي
جارسونيه وسيزاربرو فأجاز الاستئناف في الأحكام الصادرة برد الأوراق
المقدمة (المادة 54 من لائحة إجراءات محاكم الإخطاط).
وقال الأستاذ
عبد الفتاح بك السيد لعل الذي لاحظه الشارع عند تقرير جواز الاستئناف في
الأحكام الصادرة من محاكم الإخطاط باستبعاد الأوراق هو ما ينقص قضاة هذه
المحاكم من الدربة القضائية والمران القانوني.
ويكاد المطلع على أصل
لائحة الإجراءات التي قدمتها نظارة الحقانية إلى مجلس شورى القوانين
ومذكرتها الإيضاحية وتقرير لجنة هذا المجلس ومحاضر جلساته في ملحق الوقائع
الرسمية بعدد 24 مارس سنة 1913 و2 إبريل سنة 1913 يقطع بأن شيئًا من رأي
جارسونيه لم يخطر ببال أحد بل إن الذي جرى على لسان ناظر الحقانية ووكيله
هو رأي جمهور الفقهاء.
كانت الفقرة الأولى من أصل المادة (46) تنص
على أنه إذا أنكر أحد الخصمين إمضاءً أو ختمًا منسوبًا إليه في عقد عرفي
أو ادعى تزويرهما فعلى الخصم المتمسك بهذا العقد إثبات صحة الختم أو
الإمضاء وإلا حكم باستبعاد العقد من الدعوى وليس لمحكمة الخط أن تحكم
بتزويره والفقرة الثانية تتضمن أنه إذا كان العقد رسميًا وأنكر الختم
والإمضاء أو ادعى بتزويرهما فعلى من أنكر أو ادعى التزوير أن يثبت ذلك فإن
ثبت حكم بتزوير العقد وليس للمحكمة تحقيق شيء من ذلك بواسطة الخبراء.
وجاء
في المذكرة الإيضاحية أن اللائحة تجاوزت عن ذلك التمييز الذي جرت عليه
قوانين المحاكم الأهلية بين إنكار الختم أو الإمضاء ودعوى التزوير لأنه
علمي لا يتفق مع روح التشريع في محاكم الإخطاط وأنها ميزت بين الأوراق
الرسمية والعرفية فجوزت لمحكمة الخط الحكم باستبعاد الورقة العرفية دون
الحكم بتزويرها وجوزت الحكم بتزوير الورقة الرسمية وحرمت عليها الإثبات
بواسطة الخبراء لأن هذه المسائل فيها من وجوب الدقة والتمحيص ما لا يناسب
طرحه أمام محاكم إنما أنشئت للفصل في المنازعات البسيطة للقرويين. على أن
القانون احتاط فجعل الأحكام التي تصدر بتزوير عقد قابلة للاستئناف مهما
كانت قيمتها (راجع صـ 4 من ملحق 24 مارس سنة 1913).
ولما عرضت هذه
اللائحة على لجنة المجلس صرحت في تقريرها الذي قدمته له بأنها توافق على
الفقرة الأولى من المادة (46) ولا توافق على الثانية لأنه ليس من الصواب
أن يعطي لمحاكم الإخطاط حق الحكم بتزوير عقد رسمي مع أن ليس لها أن تعين
خبراء يفحصون الإمضاء أو الختم المطعون فيهما وأنها ترى أن يقف اختصاص
محاكم الإخطاط باستبعاد العقد الرسمي دون الحكم بتزويره أسوةً بالعقود
العرفية وأن ينص على أن القاضي الجزئي ليس له أن ينظر ابتدائيًا في
القضايا التي يطلب فيها الحكم باستبعاد عقد رسمي حتى يجوز استئناف جميع
الأحكام الصادرة في هذا الموضوع.
ولما حصلت المناقشة في هذه المادة
أمام المجلس طلب المرحوم الصوفاني بك إحالة القضايا التي ينكر فيها ختم أو
إمضاء في أوراق رسمية أو عرفية على القاضي الجزئي لوقوف معلومات قضاة
الإخطاط عند حد محدود ولأن مجالس الإخطاط مجالس عرفية تحكم بين الناس بما
تتبينه منهم طبقًا للعادات والأخلاق (صـ 15 من ملحق 24 مارس سنة 1913).
فأجاب
ناظر الحقانية بأن تعديل اللجنة لا يعطي لمحاكم الإخطاط الحق بأن تحكم
بالتزوير مطلقًا وإنما لها أن تقضي باستبعاد العقد فقط إذ اعتقدت أنه غير
صحيح فإذا كان العقد المستبعد رسميًا كان الحكم فيه قابلاً للاستئناف ولفت
الصوفاني بك إلى أن العقود التي تحكم محاكم الإخطاط باستبعادها هي التي لا
تزيد قيمتها عن نصاب محاكم الإخطاط أما إذا قدم لها عقد قيمته مائة جنيه
مثلاً وحصل التمسك به في دعوى قيمتها 500 قرش فإذا طعن بتزوير هذا العقد
فلا تحكم محكمة الخط باستبعاده بل يجب أن تحكم بعدم الاختصاص، ولما أعيدت
المناقشة في جلسة 10 فبراير سنة 1913 ابتدأ وكيل الحقانية بإبداء ملاحظات
تتعلق باستئناف الأحكام فقال إذا حُكم على شخص باستبعاد ورقة فإن صدر هذا
الحكم في قضية من القضايا التي تستأنف فكل حكم فرعي فيها يكون تابعًا
للحكم المستأنف في الموضوع….. وإن كانت من القضايا التي لا تستأنف من
أصلها فالأحكام الفرعية فيها لا تستأنف، فالحكم باستبعاد ورقة غير رسمية
حكم تابع لا أصلي لأن الحكم في أصل الدعوى غير قابل للاستئناف والفرع يتبع
الأصل وإنما أجيز الاستئناف في الحكم الصادر باستبعاد أوراق رسمية ولو قلت
قيمة الدعوى محافظة على الثقة الخاصة التي منحها الشارع لهذه الأوراق ثم
قال إن الحكم باستبعاد الأوراق بينه وبين الحكم بتزويرها فرق كبير لأن
الاستبعاد يفيد أن المحكمة لم ترتَح لهذه الورقة كما لم ترتَح لشهادة شاهد
مثلاً، أما الحكم بالتزوير فهو وصمة رسمية يصدر بها قرار من القاضي فيلصق
بالشخص عار لا يمحى ثم قال في العقود الرسمية ليست العلة للتي توجب
الاستئناف هي جسامة القيمة بل إن هناك سلطة رسمية وشهادة عامة بأن هذه
الورقة يجب اعتبارها فاحترامًا لهذا أجيز الاستئناف (ملحق 2 إبريل سنة
1913 صـ 3). ثم حصلت الموافقة على تعديل اللجنة.
وعند المناقشة في
المادة (54) الخاصة بالاستئناف التي عدلتها اللجنة باستبدال كلمة تزوير
بكلمة استبعاد قال وكيل الحقانية إن كان غرض اللجنة أن حكم هذه المادة
ينسحب على الأوراق العرفية فنحن مفترقون لأننا لا نقبل الاستئناف إلا في
الأحكام التي تصدر في الأوراق الرسمية التي يحصل الطعن فيها لأن العلة
التي قبلنا بسببها إجازة استئناف الأحكام الصادرة في الأوراق الرسمية هي
تلك القوة الشرعية الثابتة للأوراق المحررة على يد مأمور رسمي خلافًا
للأوراق البسيطة التي لا تجد نظارة الحقانية أن الاستئناف يشملها.
ثم
لما اقترح أن يكون الحكم بالاستبعاد قابلاً للاستئناف مهما كانت قيمة
الورقة أنكر وكيل الحقانية عليهم جواز الاستئناف إذا كانت قيمة كل الدعوى
والورقة أقل من 500 قرش.
وأخيرًا حصلت الموافقة على التعديل على هذا
الشكل (وفي الدعاوى التي حكم فيها باستبعاد الأوراق وبعدم استبعادها) (صـ
7 من ملحق 2 إبريل 1913).
وأنت ترى في هذا كله أن ليس في أصل المشروع
ولا في مذكرته الإيضاحية ولا في تقرير لجنة مجلس الشورى ولا في مداولات
المجلس أن أحدًا أشار إلى رأي جارسونيه أو إلى العلة التي علل بها
جارسونيه رأيه فلم يقل أحد إن دعوى التزوير تصبح غير مقدرة القيمة إذا حكم
بالرد والبطلان لما فيه من المساس بشرف المحكوم عليه كما قال جارسونيه ولا
أنها تكون دائمًا كذلك كما ذهبت إليه محكمة مصر بل رأيت أن نظارة الحقانية
صرحت بتبعية دعوى التزوير لأصل الدعوى وجعلت الحكم الصادر فيها تابعًا
للحكم الصادر فيه ولم تجز استئنافها إذا كانت الدعوى الأصلية لا تتجاوز
نصاب الاستئناف إلا إذا كانت الورقة المنكورة أو المدعى بتزويرها رسمية
وبينت (أن ليست علة هذا الاستئناف عندها جسامة القيمة بل إن هناك سلطة
رسمية وشهادة بأن هذه الورقة يجب اعتبارها) وأصرت على وجوب التفرقة بين
الأوراق الرسمية والأوراق العرفية مبينة أن الحكم باستبعاد الورقة العرفية
لا يفيد إلا أن المحكمة لم ترتَح لهذه الورقة كما لا ترتاح لشهادة شاهد.
ولكن المجلس بعد سماعه ما أبداه الصوفاني بك خاصًا بنظام محاكم الإخطاط
وكفاءة قضاتها المحدودة وبعد أن لاحظ أن المشروع والتعديل قد حرما محاكم
الإخطاط من الاستعانة بالخبراء قرر التسوية بين الأوراق الرسمية والعرفية
وأجاز الاستئناف عند الحكم لا لأنه راعى أن دعوى التزوير تكون غير مقدرة
القيمة لمساسها بشرف المحكوم عليه بل لأنه لم يرَ أن يحمل محاكم الإخطاط
أمانة الحكم في هذه المسائل، ولهذا منع القاضي الجزئي من الجلوس مع غيره
في القضايا التي يطلب فيها استبعاد الأوراق ليتولى تحقيقها عند استئنافها
أمامه بالتطبيق لقواعد قانون المرافعات وأجاز له الانفراد في محكمة الخط
الذي به محل المركز للحكم في هذه القضايا حكمًا نهائيًا (المادة 46 من
لائحة الإجراءات).
وإنا نرجو في ختام هذا المقال لمحكمة مصر توفيقًا تعدل به عن قضائها هذا وتعود إلى ما ثبت عليه قضاء المحاكم وفقه الفقهاء.